الكاتب والاديب صلاح البسيوني يكتب قصة بعنوان الحصان الاسود /العربية نيوز
الحصان الاسود
تأليف صلاح البسيونى
فى قريتنا الصغيرة بمساحتها..الكبيرة بعدد سكانها واهلها وعزوتها..كانت مزرعة الخيول العربية الأصيلة فخرها وميزتها التى يتباهى بها أهل القرية..فعراقة خيولها تمتد عبر أصول وجذور وسلالات أصيلة تجعل منها فخر أهل القرية والقرى المجاورة لها بحكم التواصل والمصاهره والتعامل اليومى..برعت تلك الخيول فى كافة المشاركات والمناسبات والمحافل المحلية والدولية حتى صارت علامة مميزة ترى أسمها فى كل المجالات والمشاركات والسباقات ويبرز اسمها بالداخل والخارج..ولا تتوقف مشاركتها فى كل المناسبات بدرجات متفاوته حسب قدرات كل حصان بالمزرعة..فهناك خيل يشارك فى الأفراح والإحتفالات والأعياد بالرقص على الطبل والمزمار والزينة وهودج العروسين حتى إحتفالات طهور الأولاد أو إعتلائهم ظهره للفسحة واللعب واللهو.
وهناك خيل للسباق حسب مسافاته أو حواجزه وإرتفاعاته..بل وحسب أهميته و خطورته..ولكن فى كل السباقات كان هناك حصان أسود ليس بكبيرهم ولا بصغيرهم لكنه من نفس السلالة والعرق..يشارك فى كل السباقات..وأيضا فى كل المناسبات..تجده فى مقدمة سباقات الحواجز العالية..وتجده فى حفلات الطهور والأفراح..يتقدم صفوف الخيل فى المشاركات الإجتماعية ويسبقهم فى اللحظات الإضطراريه.. يلجأ إليه أهل القرية عنما تعييهم الحيله..ويقدم إليهم نفسه من بين الصفوف حين يلحظ تراجع باقى الخيل..متقدم حين تزيد الأحمال..ومتقدم أيضا حين تتراجع همم الآخرين.
وفى النهاية هو الحاضر دائما قبل الجميع..والحاضر دائما فى عقل جميع أهل القرية..وما حمل ثقلا إلا كان أهلا له..وما رفع رأسه إلا ليحصد الفوز فى كل سباق..وما جاء ذكره بين أهل القرية إلا بالإعجاب بل والدعاء. حتى أصبح نجم كل اللقاءات والمشاركات والسباقات كما أصبح محط غيظ الخيول الأخرى الواهنه أو المترهله.. بل ومحط صدامات خفيفية أو ركلات ضعيفة أو إصابات طفيفة فى محاولات عبثية للنيل من سرعته أو لإضعاف قدراته وعرقلة خطواته.. ولم يسلم أيضا من كلمة هنا أو غمزة ولمزة هناك وكأنها غبار بركان مكتوم تحاول التشكيك فى قدراته وإمكانياته فى محاولة يائسة للتقليل من قيمته بين أهل القرية أو أقرانه بالمزرعة حتى يتراجع سهمه ويتهاوى سعره ويسقط عن المقدمة التى أحتلها عن جدارة طوال أعوام عمره..وفى النهاية كان الحصان الأسود هو الحاسم والجازم فى مواجهة تلك المهاترات حين يتقدم الصفوف مشاركا وتتراجع الأرجل المترهلة أو العزائم المتراجعه وينهى السباق دائما بفوزه وتتويج جهوده وتنكسر سهام المغرضين وتتهاوى رؤوس المراهنين على فشله.
ومن طبيعة الكون الحركة وعدم السكون..والتغير وعدم دوام الحال..أو كما يقال دوام الحال من المحال..تمر الأيام تلو الأخرى وهو لا يعترف بعمر أو إجهاد..يعبر الحواجز كلها مهما كان إرتفاعها..تتسارع خطواته فى نهاية السباق ليتقدم ويفوز بعقله وخبراته بدلا من الفوز بقوائم أرجله..أصبح يختزن مجهوده للخطوات الأخيرة من السباق حين تنتهى قدرات الأخرين وتفتر عزيمتهم وتلهث شفاههم..ليستنفر همته ويبرز عزيمته وتسرع خطواته ويصل لنقطة النهاية بطلا مغوار متوج من كل المشاهدين والمتابعين بل وعنوة من المتربصين. وكلما وهن العظم منه زاد تراجعه فى الجولات الأولى من السباق ولكنه كان دائما واثق من لحظة النهاية والفوز بالسباق..ثم زاد الوهن من عظامه فقلل من مجهوده بالجولات الأخرى من السباق مختزنا طاقته للجولة الأخيرة وليدخل خط النهاية وقد حصد جائزته.. مما كان يزيد المتابعين فخرا.. والحاقدين قهرا .. والمتشككين ترددا وفشلا فى تفسير سر قوته.
لم يدرى أحد أن قوته تكمن فى ثقته فى ذاته وفى قدراته..وأن سر قوته يكمن فى حرصه الدائم على تجديد نشاطه الذهنى قبل العضلى..والتريض فى أنحاء القرية فجر كل صباح يزيد من شحنة النشاط بداخله..ويمحوا عن كاهلة عبث الخيول الأخرى ويرفع عن ظهره أحمالا كاد أن ينوء بها ظهره..ويغسل عن صدره هموما كادت أن تحجب ضياء الشمس عن عينيه..بالأحرى كان تريضه فجر كل يوم فى أرجاء القرية هو ميلاد جديد.
وتقدم العمر..ووهن العظم أكثر وأكثر..ولم يعد فى مقدرته سوى الحفاظ على طاقته للجوله الاخيره فقط فى محاولة يائسه للإحتفاظ بالتقدم والفوز حتى اللحظة الإخيره من عمره..لينهى حياته متفوقا فى جولاته متقدما فى سرعاته..متحديا فى إختياراته ..قافزا لكل الحواجز..ومحطما لكل الأرقام القياسية..ويقع المحتوم لينهزم فى آخر سباقاته..يعجز عن استنهاض خبراته..وتفشل كل محاولاته.. وتتعثر كل قفزاته..وينتهى السباق وقد خارت قواه وعجزت قوائمه على بذل الطاقة المرجوه ويفشل فى حصد الفوز..ويسمع تهليل الشامتين ..وغضب المشجعين..وصهيل خيل المشاركين..إعلانا لهزيمته..أو فرحا بوجيعته..وفى داخله كانت لحظة المواجهة أن قد حانت اللحظة المرتقبة والتى تأجلت سنوات..ووقع الحدث الذى طالما منعه..ووصل إلى مرحلة لا يرجى منه فيها سوى التريض بالأطفال كل صباح وهذا ماكان يخشاه ولا يتمناه..فساده الحزن وأظلمت عيناه وأمتنع عن الأكل والشراب وهو فى ركنه يتجرع ذكريات مجده وصولاته وجولاته وسباقاته ويتذكر هتافات التهليل والتشجيع ثم يرى ما آل أليه وضعه.
وأخذ ينظر حوله فى صمت وينتظر اللحظة التى تأتيه فيها رصاصة الرحمة.
التعليقات على الموضوع