الكاتب و الاديب صلاح البسيوني يكتب قصة بعنوان عم عاشور بتاع البليله /العربية نيوز
عم عاشور بتاع البليله
تأليف صلاح البسيوني
منذ أن وعيت خطواتي في حارتنا بحي البساتين ولا أعرف له اسما سوى (عم عاشور بتاع البليلة) .
رجل مشيب حفر الزمان على وجهه دروب وأخاديد وتطل من عينيه لحظة الغروب وتثقل خطواته وهو يدفع أمامه عربته الخشبية التى يسرح بها كل يوم لبيع البليلة لأطفال وكبار الحارة .
وعلى الرغم مما يتكبده من مشاق يومية في الحصول على لقمة عيشه إلا أنني لم أذكره يوما متجهما أو عابثا أو متذمرا .. بل كان يقابل صراخنا أو شقاوتنا بابتسامة هادئة بها بعض التعجب لعجالتنا أو الدعوة لسكوننا وأحيانا كثيره سخرية مما نحن فيه ومما سوف نكون عليه !! .
وتمر الأيام ونكبر وعم عاشور بتاع البليلة كما عهدناه كبير مشيب بطئ الخطى وما زادته الأيام سوى بطء في حركته ووهن في صوته حين ينادى ( البليلة السخنة ) معلنا وصوله الي حارتنا وإن كنا في غير حاجة الي هذا النداء فموعده كما هو في الصباح والمساء الساعة السابعة لم يتغير صيفا أو شتاء .. ولم تثنه السنون وآلام العظام وضعف البصر عن انتظام وصوله في تلك المواعيد بدقة فطريه وكأنها ساعة ميقات بداخله .
واليوم عند خروجي للعمل في الصباح وجدت جمع من أهل الحارة عند الناصية يتهامسون .. في البداية لم أدرك السبب ولم أهتم .. وعندما اقتربت من المكان تبينت عدم وجود عربة البليلة ولا عم عاشور والمكان خالي منهم .. اقتربت أكثر فسمعت أحدهم يقول : ( لا حول ولا قوة إلا بالله .. إنا لله وإنا إليه راجعون ) وآخر يتساءل من يعرف أهله حتى نتصل بهم ؟ وثالث يجيب : منذ أن حضر ولا نعرف له أهل سوى زوجته .. فهو مهاجر من الصعيد هربا من الثأر .. قال شيخ هيا بنا لعمل ما يرضى الله بالأشراف على إجراءات الغسل والجنازة والدفن في مدافن الصدقات .. وأشار إلى أحدهم وقال اذهب الي مكتب الصحة لاستخراج تصريح الدفن .. لعل الله يثيبنا عنه خيرا ويتغمده برحمته .. وصاح في صبى : أطرق أبوب الحارة وأبلغ سكانها بموت عم عاشور بتاع البليلة وأن جنازته ستشيع عند صلاة الظهر من مسجد الحي .. انصرف الجمع .. كل لقضاء ما كلف به .. أو لقضاء حاجة في نفسه.
اجتمعنا في المسجد للصلاة على جثمان عم عاشور .. بضع رجال وشباب بل وأطفال بعيون دامعة .. وخرجنا بنعشه وخلفه الأفراد القلائل في طريقنا الي مدافن حي البساتين القديمة .. وكلما سرنا في شوارع الحي ينضم إلينا بضع أفراد .. وإذا بجمع من كبار القوم كما يبدو من مظهرهم ينضمون إلي الجنازة ورتل من السيارات تسير خلفها .. سيارات حكومية تحمل أشخاص تدل هيئتهم على مراكزهم الهامة .. ونتمتم لبعضنا البعض سبحان الله أن محبي عم عاشور بتاع البليلة كثيرون !! كل هؤلاء حضروا فور سماعهم نبأ وفاته !! لم نكن ندرى أن له كل هذه الشعبية وكل هذه المحبة لدى الكم الهائل الذي أصبح يشكل طابور بطول كيلومتر خلف جثمانه سيرا لمسافة ثلاثة كيلومترات على الأقدام حتى المدافن .
وصلنا مدافن الصدقات القديمة بالحي .. وفتح القبر وأنزل إليه المرحوم وأغلق بابه .. ووقفنا صفا لنأخذ فيه العزاء كأهله .. وتقدم إلينا طابور الحاضرين بداية من أهل الحارة يليهم من أنضم إلى الجنازة بالطريق .. ولاحظت بعض علامات التعجب أو التردد على وجوه البعض وهم يصافحوننا وأعينهم تبحث في المكان عن آخرين .. إلى أن تساءل كبيرهم : أين أبناء المرحوم وأخوته ؟ قلت على الفور: الله يرحمه لا أبناء له ولا أخوة أو أهل .. فقال في تذمر وغضب : بلاش كلام فارغ ده مش وقت الخلافات أو تصفية الحسابات .. فعلقت علي كلامه قائلا: لا خلافات ولا حاجة عم عاشور لم ينجب ولا نعرف له أهل .. صرخ : عاشور؟ عاشور مين ؟ قلت : المرحوم عم عاشور بتاع البليلة .. تراجع الرجل الهام وسأل : أليست هذه جنازة الحاج عبد الجواد كبير عائلة البديوي وعضو مجلس الشعب ؟ صرخت متسائلا : وهل توفى ؟ أجاب : اليوم وجئنا لحضور دفنه بمدافن البساتين الجديدة !! .
قلت : سبحان الله ذهب في صمت بعد عز وجاه .. وذهب عم عاشور في عز بعد صمت .
التعليقات على الموضوع