الكاتب و الاديب د . طارق حنفي يكتب ما زِلْتُ صَغِيرًا / العربية نيوز
ما زِلْتُ صَغِيرًا
رغم سنِي عُمري ورأسي الذي اشتعل شيبًا، إلَّا أنَّنِي في كلِّ مرة أجلسُ معه وأتأمل وجهه الذي أُعيد نحتُه، ويدَيه المعروقتين وجسده الذي فقد - منذ حين - معظم شحمه ولحمه، أرى نفسي صغيرًا.
عادةً ما يُخيِّم على مجلسنا الصمت إلا من بعض العبارات المتبادلة للاطمئنان والسؤال عن الأحوال، والحكايات من هنا وهناك.. زاد عليها - منذ فترة - نظرات فخر تطل من عينيه، يصاحبها كلمات مديح تتمحور في مُجملها حول أني صرْتُ رجلًا ذا شأن، لكنَّه في هذه المرة أيضًا - كسابقتها والتي سبقتها - اكتفي من جهته بالصمت فقط.
علا وجهه المُتعب شبحُ ابتسامة قبل أن يقبض بيده على يدي يعتصرها بقوة؛ مما جعلني أزحزح مقعدي لأجلس في قبالته، تركها أخيرًا واستلم الأصابع يُطَقْطِقُها الواحد تلو الآخر، ابتسمت عندما انتهى منهم جميعًا، أمسك يدي من جديد يتحداني – هذه المرة - في مباراة لقوة الساعدين؛ مما جعلني أضحك بصوت عالٍ رغم الألم الذي يعتصر قلبي.
يده ترتعش بينَ الفَينَة والأُخرَى، وفي كل مرة يبذُل الجَهد كي يحافظ عليها قابضةً على يدي.. بعد فترة، لم يعد يقوَ على الاستمرار؛ فمال برأسه إلى الخلف يستند إلى ظهرِ مقعده، وأغمض عينه، لقد أُجهد تمامًا لدرجة لا يستطيع معها الإبقاء عليها مفتوحة، أو - ربما - هو نائم الآن، إلَّا أن شبح الابتسامة التي لا تزال مرسومة على وجهه، ويده التي سارعت تتمسك بيدي حين حاولت سحبها، يخبراني أنه ما زال مستيقظًا؛ ممَّا دفعني إلى محاولة التسامر معه، أسأله فيومئ لي برأسه بالموافقة أو الرفض.
سألته مازحًا: "لماذا تُبرز قوتَكَ معي هكذا؟"، ازدادَ شبحُ الابتسامةِ التي تُغطي وجهه ظهورًا؛ مما شجعني على الاستمرار: "أتهدف إلى القيام بتمارين لساعدك؟"، ابتسم ابتسامة لم أتبيَّنْ معناها، فأكملت: "أتريدني أن أجلب لك شيئًا ما؟ طعامًا - رُبَّما - أو شرابًا؟"، حركَ رأسه في قوة بالنفي، كأنه يريد أن يستبقيني أطول فترة بجواره! ترددتُ قليلا قبل أن أسأله عن الشيء الذي طالما أصابني بالحيرة، رائحته، رائحة خاصة به، لم أستنشق مثلها في حضور أحدِ غيره.. لكنه لم يُبدِ أي ردة فعل.
وفي الأخير، غلبه النوم.. مرَّ الوقت وجاء الصباح معلنًا عن موعد إفطاره والدواء، ثم موعد رحيلي، فقد كنا نجالسه خلال مرضه على فترتين، بالنهار والليل، قبلْتُ رأسه، وأخبرته أني سآتيه مرة أخرى في المساء، تركته وذهبت، إلا أن رائحته لم تتركْني هذه المرة بل بقيت آثارها عالقة بأنفي.. عدت في المساء، لكني لم أستطع أن أسامره أو أعطيه يدي ليشد عليها مرة أخرى؛ لقد كان شبه غائب عن الوعي، وكانت هي الليلة التي توفي فيها والدي.
مرت الأيام ولا زلْتُ أذكر ما حدث في تلك الليلة، وبالتفصيل، مر شريطُها أمام عيني هذا المساء بالفعل.. الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل، إلا أنني لم أستطع النوم، غادرت الغرفة إلى الشرفة الملحقة بها، أسألُ نفسي عن تلك الرائحة، وعن بذله كل هذا الجهد فقط ليقبض بيده على يدي أو يفرقع أصابعي رغم شدة مرضه، ما الحاجة التي كانت تجول في نفس أبي وقضاها؟ ثم ابتسمت رغمًا عني حين نبتت بعض الأفكار برأسي، همست متسائلًا: "أيعقل أن تكون الرائحة هي رائحة كفاحه، الأبوة التي تَفيضُ بها نفسُه؟"
ثم علا صوتي: "هكذا إذًا، هو لم يكنْ يمرن يده بل كان يلعب مع ابنه الذي ما زال يراه صغيرًا في عينه"، فجأة عادت نفس الرائحة تعطر أنفي؛ وهو يطلُّ علي من عالمه، ويبتسم، وفي عينيه نظرة فخر لفطنة صغيرِهِ الذي أدرك الأمرَ أخيرًا.
التعليقات على الموضوع