LightBlog

الكاتب و الاديب د . صلاح البسيوني يكتب لقاء طال انتظاره / العربية نيوز

 لقاء طال انتظاره 

تأليف د. صلاح البسيونى 





عاشت طفولتها فى إحدى أحياء القاهره الفاطميه بما يحتويه هذا الحى من صخب وضجيج وعراقه وجيره .. حتى رائحته مميزه للأنف حين تدخل من أى حارة يحتويها .. الكل يعرف الكل .. كبيره وصغيره .. والكل يؤازر بعضه فى السراء والضراء .. وأسرتها نموذج لآلاف من قانطى هذه الأحياء .. من أب يسعى للبحث عن رزق أولاده .. وأم تدير شئون هذا البيت أفضل من أى وزير ماليه بأقل القليل من الدخل المطلوب .. وأبناء تربوا على أن القناعة كنز لا يفنى .. كل صباح وجبة الإفطار الفول المدمس البيتى بدلا من شراؤه من عم عبده بياع الفول والبليله توفيرا للنفقات ..  واليوم التالى وجبة الطعميه السخنه البيتى بعد شراء الفول المدشوش ذى الفصوص بعد التخلص من قشرته ليترك فى الماء ساعات ثم يتم وضعه فى المفرمه مع الخضرة والتوابل وقليل من الكربوناته ليخرج فى أقراص من  الطعمية الساخنه أفضل من أقراص طعمية عم فؤاد الموجود على ناصية الحاره .. والفول ده ليه إستخدامات تانيه حين يتحول إلى فول نابت بعد النقع فى الماء ثم وضعه ع النار مع بصل وملح ليتحول إلى وجبة غداء مع الشوربه الملحقه به .. تلك وزيرة مالية الأسرة تدبر وتوفر الإحتياجات بأقل القليل .


وفى الشتاء كل صباح يخلط الدقيق بالماء ويصب على سطح ساخن ليتحول إلى فطيره ساخنه يرش فوقها بعض السكر لتكن وجبه ساخنه هنيه تسد رمق الأطفال ..  ولا تنسي سد الحنك كل مساء بالعشاء وهى عجينه الدقيق مع السمن والعسل تقلب على النار لتصب فى الأطباق وجبه رائعه تسد جوع الأولاد كما تسد الأفواه أو الحنك الجائع .. لا تشكوا من قلة الموارد المالية أو قلة الحيله .. لكنها تدير مملكتها أو منزلها بما هو متاح أو متوافر دون تململ أو تمرد .


وتمضى الأيام مثل كل أيام أهل الحى .. الضجيج المرافق لحياة البشر أو الدال على وجودهم أحياء .. والأب يذهب إلى عمله كل صباح كموظف صغير فى مصلحة سكك حديد مصر .. تاركا زوجتة تتولى مسؤلية تربية أبناءه بداية من شيماء الكبرى ومحمود ومحمد ومحسن الأولاد وآخر العنقود سعاد الصغرى .


وذات صباح غابت عنه الشمس أو إحتجبت عن الأسرة .. إستيقظت الصغيرة سعاد على آنات مكتومة تصدر من صالة الشقة لتخرج مذعورة تستطلع الأمر فتجد أمها فى ثوبها الأسود المعتاد ووشاحها الملتف حول وجهها الناصع البياض ..  وقد إلتف حولها بعض من نساء المنزل والحى .. يهمهموا بكلمات غير مفهومة للصغيرة التى بدأت فى البكاء دون أن تدرى ما الحدث لكن تأثرا" بوجيعة أمها أو فجيعتها .. وتتحرك الأحداث لتفهم أن تلك اللحظة كانت مفارقة أبوها للحياه ولمنزلهم ورحيله إلى مقره الآخر أو الأخير .


لتبدأ مرحلة أخرى أشد ضراوة وقسوة فى معاناتهم المادية .. والأم فى صبرها .. وعزة نفسها .. وقناعتها بالمقسوم .. تحاول أن ترمم الصدع .. وتوصل الجسور .. وتعبر المحنة .. وتحيط أولادها برعايتها وحنانها أكثر من ذى قبل .. لتتحول مجريات الأمور أو الأحداث فى طريقها إلى سد الفجوة المالية أو الغذائية الناجمة عن فقد العائل الوحيد أو المورد الوحيد للأسرة .. الكل يسعى أن تستكمل البنت الكبرى تعليمها خاصة وأنها فى الشوط الأخير منه بدخولها الجامعة .. والكبير ينخرط فى العمل مع أحد أقرباؤه بأحد الفندق الشهيرة فى أعمال المطبخ .. كبداية لمهنة تدر دخلا فيما بعد .. وإن كانت حاليا تسد رمق أو جوع .. ويتطوع الثانى بالجيش ليضمن تعلم مهنة ودخل شهرى .. والأخير يعمل على إحدى سيارات النقل الصغيرة .. تحولت مجريات الأمور فى هذه الأسرة الصغيره تحولا رهيب بعد خروج عائلهم الوحيد من الحياه أو خروج قطار حياتهم الرتيب عن قضبانه ..  وأختل توازنه .. أو توازنهم .


تمر الأيام والأخ الأكبر يتولى مهام الأب فى رعاية الصغرى ودخولها المدارس المتتالية دون ملل أو كلل .. كان واجبه الذى يقوم به عن حب وحنان .. لرعايتها لتكمل تعليمها مثل الكبرى وتحقق الحلم الذى فشل الأولاد فى تحقيقه .. بعد أن تخرجت الكبرى وتزوجت وسافرت مع زوجها إلى بلد آخر بعيد عن الوطن وعن الأهل والمسئوليه  !! حتى كبرت الصغرى .. وكلما إسترجعت ذكرياتها مع والدها التى لا تزيد عن تدليله لها عند عودته من عمله .. أو عندما يحضر أحد أكياس الفاكهة ليخصها بإفتتاحية خاصة منه .. أو لحظات جلوسها على قدميه وهو يداعبها .. كانت تعود من رحلة ذكرياتها لتسأل والدتها .. أين قبر والدى ؟ لتجيبها بإبتسامة عاجزة : إخواتك الرجاله عارفين مكانها لأنه غير مسموح  للسيدات زيارة القبور ..  وكل اللى أعرفه أنه فى مقابر السيده عائشه .. تذهب البنت الصغرى التى كبرت لتسأل إخوتها الواحد تلو الآخر عن مكان قبر أبيها .. فيجيبها بنفس الإجابة كل منهم .. هنبقى ناخدك معانا فى زيارة العيد ..  ويأتى العيد تلو العيد ولا من منفذ لوعد أو من عهد .. حتى تزوجت البنت الصغرى التى كبرت ورحلت مع زوجها إلى إحدى مدن الساحلية بعيدا عن العاصمة بحثا عن رزقه وسعيا وراء عمله وحيث حياتها الجديدة .


وتمر السنين متتالية مابين القاهرة فى زياره والعوده الى المدينة الساحليه .. وذات يوم يأتيها فى بيتها إتصال تليفونى خاطف .. أمك قد أحتجزت بإحدى المستشفيات وهى فى حاله مرضيه متأخرة .. وفورا تشد الرحال إلى القاهره لتلحق بأمها فى الرمق الأخير ..  وتسير معها فى رحلتها حتى مثواها الأخير بإحدى المقابر الحديثة بضواحى مدينة القاهره الكبرى وهى تمنى نفسها أن تتعرف على قبر والدها أيضا فى تلك الرحله ..  لتكتشف أنها مدافن عائلة أمها .. وبالتالى لا يزال قبر والدها بالنسبة لها مجهول المكان .. وتعيد السؤال على مسامع إخوتها رغم مرور تلك الأعوام الطوال .. لتجد نفس الإجابة أو نفس الهروب من الإجابة بلا مبرر أو سبب.

وكما يقال أن الحياة سلسلة من الأحداث أو المحطات .. فقد تعاقبت الأحداث .. وتوالت محطات القطار .. لتفقد الأخت الكبرى ويتم دفنها فى مقبرة حديثة إشترتها هى وزوجها فى إحدى المدن الجديدة  .. ويشتعل نفس السؤال فى داخلها مع ثورة على إخوتها حتى شكت إلى حد اليقين  أن لا أحد منهم يزور قبر الوالد منذ وفاته .. والقطار يسير مسرعا ليصلها وهى بأداء مناسك الحج نبأ إحتجاز الأخ الأكبر بالرعاية المركزية بإحدى المستشفيات وتواصل الدعاء له فى خطواتها الدينية بالأراضى المقدسه .. ليأتيها فجر اليوم التالى نبأ وفاته .. وتم دفنه فى مقبرة أخته الكبرى وزوجها .


الضربات موجعة ومؤلمة وهى فى آلامها تحفر بئر الذكريات لتستخرج منه حلمها أن تتعرف على قبر والدها .. وتذهب الى اخيها الاوسط تسأله فى استعطاف او رجاء ان يدلها على قبر والدها فلا تجد منه سوى تمتمة وهمهمة ويتركها مغادرا المكان والزمان لارتباطه بموعد تذكره فجأة !! ولم يبق أمامها من تستعطفه أو تعيد على مسامعه : أين مقبرة أبى ؟ بلا إجابة سوى الأخ الأصغر الباقى على قيد الحياه و الشارد عن الجميع منذ سنوات طوال ..  حتى ضاق به الأمر وأخذ يتمتم بكلمات يوحى بها أنه لا يستطيع الوصف أو الشرح للطريق إلى المقبرة  لأنها وسط غابة الموتى بمقابر السيد عائشة بالقاهره .. حيث لا شوارع  ولا مداخل .. ويقابلك فى كل خطوة مدفن فردى أو سور مقبرة إقتطع الطريق وعليكى تغيير الإتجاه وبالتالى قد خرجت من الذاكرة خريطة الإستدلال عليه .


وفجأة وهى فى خضم تلك الأحداث .. وبعد أن عادت إلى القاهرة لتستقر فيها .. إكتشفت أنها هى الأخرى قد فقدت الطريق إلى مقبرة أمها بحكم ما حدث من منع زيارتها للقبور ..  وتشعر بالإنزعاج .. هل تفقد تواصلها مع مقبرة إمها أيضا ؟.. حتى بعد أن إستقرت بها الإقامة فى القاهرة الفاطمية مرة أخرى بعد فترة الإغتراب القاسية .. هل تتكرر معها تلك المأساة التى عاشتها مع قبر والدها ؟.. تحزم أمرها وتصطحب زوجها فى رحلة بحث عن مثوى أمها بمقبرة عائلتها بآخر ما لديها من ذكرى تومض على فترات لصورة المكان من الخارج .. أسواره .. شوارعه .. مداخله .. لتتوقف خارج مدينة الأموات الجديدة .. أو مدافن مدينة نصر الجديده .. وتتنقل من شارع إلى شارع لسؤال من تقابله – ممن يقيم داخل زمامها أو ممن يعمل فى مدافنها .. حتى عثرت على أحدهم حين قال أنه مسئول عن مدفن تلك العائلة وراثة عن جده ووالده .. وأصطحبهم إلى أسوارها ويفتح بابها الحديدى لتذرف الدموع حزنا على الفراق .. وفرحة بلقاء خشيت ان لا يتم  .


وتعود من تلك الرحلة القاسية على القلوب وهى أشد إصرارا على مداومة البحث عن مدفن والدها فى تلك الغابة المسماة مقابر السيده عائشة .. والمتداخلة فى أزقتها وحواريها .. والمتقاطعة فى كل خطوة تخطوها بداخلها .. والأمل لا ينطفئ شعاعه بعدما إستطاعت الوصول إلى قبر أمها .


كانت أحلام الست سعاد بسيطة .. الكل يحلم بعقارات أو أراضى .. وهى تحلم بقبر أبيها .. كانت تعيش حياتها تعد عدتها ليوم الرحيل .. وكل من حولها يعيش حياته يقتحم كل شئ فى سبيل المزيد والمزيد من التمدد والإمتلاك .. كانت تعيش مع الرحيل والكل يعيش مع الغد .. لكنها كانت سيدة نفسها .. حافظة لقرآنها .. تتلوه الساعة تلو الساعة .. واليوم تلو اليوم .. والاذكار فيما بين القراءة والقراءه .. وفيما بين الصلاة والصلاة .. وفيما بين النوم واليقظة .. حياتها فى حب الله ورسوله .. تسير ولا مطلب غير رضاهم .


هكذا كانت آحلام الست سعاد فى بحثها عن الأموات بعدما تقطعت أواصر التواصل مع الأحياء ممن حولها .. ثم يأتيها الإتصال الذى لا يأتى إلا بالكوارث .. توفيت زوجة أخوكى الأكبر بالمستشفى .. تسرع إليها وهى تحاول أن تسترجع آخر مرة رأتها لتكتشف أنها من أعوام طوال .. بعد زواجها مباشرة .. وتتذكر أنها حرمتهم جميعا من دخول شقة أخوها .. بلا أى سبب سوى ما تحمله فى ضميرها أو ما يتحرك  فى تفكيرها ويجول فى صدرها .. وتصل سريعا إلى المستشفى لتشرف على غسلها .. وتسير خلفها فى رحلتها الأخيره رغما عن أن إبنتها الوحيدة  تراخت عن الذهاب مع أمها إلى قبرها !! -  لكنها تصر على أداء الواجب رغما عن إنقطاع تواصلهم منذ سنوات طوال حياة أخيها الأكبر .. وتصل إلى مدافن السيدة عائشة حيث مقابر عائلة زوجة أخيها وتدخل خلف الجثمان .. حتى تفتح الحفرة وتتركك الجثة .. وتغلق المقبرة .. ويهال التراب .. ويرش الماء .. ويعود الكل أدراجهم فى إنتشار داخل أزقة وتقاطعات المدافن .. حيث المسارات المتقاطعة .. كل حسبما يأخذه المسار فى طريقه للخروج من غابة الأموات إلى الطريق العام بشارع صلاح سالم العريق .. تصطدم عيناها بلافتة على أبواب إحدى المدافن العتيقة .. تصرخ مدفن والدى إللى معرفتوش من خمسين سنه .. تجرى إليه – تتعلق بأبوابه الحديدية .. وتنهار باكية وهى تحتضن أسواره فى لقاء طال انتظاره .

ليست هناك تعليقات