LightBlog

الكاتب و الأديب طارق حنفي يكتب قصة قصيرة بعنوان الخُفَّاش / العربية نيوز

 الكاتب والأديب طارق حنفي يكتب قصة قصيرة 

بعنوان:  الخُفَّاش



     يجلس بمفرده، يتطلع إلى الصورة الثابتة التي تبُثُّها الشاشة المنتصبة أمامه، صورة شاب فتيّ في مقتبل العمر يجلس عار الصدر والحزن يطلٌّ من عينيه، وكآبة تُغطي وجهه.. ثم بدأتْ تدب في الصورة الحياة، دخانٌ يتصاعد من خلفه ويرتفع سريعًا، وهو يتفحَّصه بعينين زائغتين تبحثان عن شيءٍ ما، والدخان يتراكم في الأعلى مكوِّنًا ما يشبه السماء.. فجأة، بدأت أفكاره تغادر رأسه، مُتشكِّلة في هيئة صور متعددة، تتحدث كل واحدة منها بصوت مسموع وتبوح بفحواها وهي تصعد لتعانق سماءه، هذه صورة وجه والده الغاضب يعلن رفضه الزواج من محبوبته وزميلته في الدراسة، ثم ارتفعت الصورة وغاصت في سحب الدخان واحتلت السماء، بدأت تصرخ من عالٍ فيتردد صدى صوتها الحاد في الفضاء، تخبره أنه لا شيء، مجرد نكرة.

     

     ثم بدأت تظهر صور ذكرياته مع محبوبته تباعًا، تجسِّد أحلامًا، ولحظات ضحكات وسعادة.. ثم ظهر شاب ميسور الحال تقدم لخطبتها؛ لتبدأ معها صور بؤسه وشقاءه وحزنه، ها هي تتهرب منه.. تخبره بصوت حالم أنها تريد رؤية العالم، أن ترتدي ثيابًا فاخرة وتمتلك سيارة فارهة وتحيا في بيت فخم بمكان راق، تحضر حفلات المغنيين والمغنيات وتذهب إلى المصايف هنا وهناك.. وتطور الأمر.. وأعلنتها صراحةً، وصوتها الواثق يخبره أنها لا تريد رؤيته مرة أخرى ولا حتى سماع صوته.. ووجه أبيه الذي يحتل السماء فوقه ما زال يعلن أنه لا شيء، مجرد نكرة.


     أظلمت سماؤه مع ظهور مخلوق ضئيل الحجم خلف أذنه، أوحى إليه بضرورة استغلال اللحظة، الكل غائب وهو الآن بمفرده، ويجب عليه فعل ما بيَّته عقلُه وأضمره صدرُه.. وبصوتٍ حنون يخبره أنه ليس نكره بل هو رقم واحد، مميز في نفسه، فهو رجل وصاحب في زمان بلا رجل ولا صاحب، الجميع يعرفه، منهم من ينظر إليه بعين الإعجاب، ويتمنون رضاه، ومنهم من يغار منه ويحسده أو يبغضه.. ستفعل شيئًا كبيرًا جريئًا يتذكرك به الجميع على بَكرةِ أبيهم، وستثبت لهما مدى خطأهما، سيندم والدك، كما ستندم هي حين تشعر بالتعاسة مع الآخر، ستبكي فراقك.


ترك مقعده أمام الشاشة واتجه إلى غرفته، ومع ذهابه تجمَّد المشهد مرة أخرى، عاد يحمل شيئًا ما في يده وضعه أمامه على طاولة صغيرة تحتلُّ مساحةً بين قدَميه، ثم تطلَّع إلى الشاشة التي بدأت تبُث من جديد صورة الشاب الجالس هناك.


     في هذه المرة لم تكن الأفكار تغادر رأسه بل تقتحمها عنوه، فكرة ما اخترقت رأسه وأظهرت ما بداخله، تحوَّلت تلك الفكرة إلى غشاءٍ داكن أحاط بعقله وأنساب في نعومة وسرعه ليُغشِّي عينيه ومنهما إلى حلقه وصدره، اعتصر صدره بقوة حتى أصبح ضيقًا حرجًا.. ظهر من العدم نور باهت متجها صوب قلبه، لكن بوابة سوداء انزلقت سريعًا أمام القلب وحجبته، فارتد النور عنها، وعاد إلى العدم.


     أمسك الشاب الفتيِّ هاتفه المحمول وبدأ يرسل بعض الرسائل عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ، تذكروني، وادعوا لي بالرحمة، ستعلمون غدًا الحقيقة وستعرفون قدري ووزني.. ثم أخذ الشفرة الحادة التي وضعها فوق الطاولة أمامه وقطع شرايين يدَيه، أغمض الشاب الجالس أمام الشاشة عينيه.. ثم فتحهما يتطلع إلى المشهد مرة أخرى، الدماء تنساب من جُرحَي يدَي الشاب وتسيل على الأرض سيلا.. اختفت البوابة وغادر قلبَه بقيةٌ باقية من نور، سادَه بعدها ظلامٌ حالك.


     تعملق المخلوق الضئيل وأصبح شيطانًا هائل الحجم، وقف في زهوٍ ممسكًا بيده اليسرى سلسلة كبيرة يتدلَّى من طرفها صندوق له باب موصد، والطرف الآخر لا يُرى نهايتُه، إنها سلسلة ذرعها ما لا نهاية من الأذرع.. رفع الشيطان يده الأخرى أمام عينيه، برز من أصابعها مخالبٌ طويلةٌ حادة، ولمدة اخترق بهم عظام صدر الشاب وأوغل يده.. فتح الشاب عينيه متطلّعًا إلى صورته في المرآة المنتصبة أمامه، طأطأ رأسه وألقى نظرة على الدماء تغرق الأرض عن يمين الطاولة ويسارها، ثم غادرت روحُه جسدَه وهي تذرف دمعًا كالحمم، كلما لامس وجهها أحرقه، وأغمض الفتي عينَيه لآخر مرة.

 

     كانت المرآة لا تزال تعكس صورة ما يحدث، أخرج الشيطان يده من صدر الجسد المُلقى أمامه وهي تحمل جوهر الشاب، وفتح باب الصندوق وعلَّقه في سقْفه قبل أن يُحكم إيصاده، كان الجوهر يتدلَّى في الظلام كخُفَّاشٍ مُستَغرقًا في سُباتٍ أبَديّ يغشاه ظلامٌ سَرْمَديّ.



ليست هناك تعليقات