LightBlog

الكاتب والأديب د .صلاح البسيوني يكتب أنا وعلم بنما/ العربية نيوز

 أنــــــا وعلم بنمــــــــا 

تأليف د. صلاح البسيونى 




حانت خطوة ترددت كثيرا قبل الإقدام عليها .. وأقدمت على تنفيذها في لحظة من اللحظات القلائل التي أتحلى فيها بالشجاعة في إتخاذ مثل هذا القرار وأمتثلت لتوصية الأطباء بإجراء عملية جراحية في إحدى المستشفيات .. وأستعددت لهذا الأمر وأخبرت الأبناء بقيامي بمهمة عمل مصطحبا زوجتي للترفيه عنها .


وإلى هنا وكل شئ يسير في خطوات منتظمة بداية من تجهيز حقيبتي الصغيرة بعد أن أعددت قائمة سريعة بما يجب أن تحتويه .. وأسرعت في جمع تلك الأشياء من ماكينة الحلاقة وملحقاتها من فرشاة ومعجون الحلاقة وفرشاة الأسنان وزجاجة من عطر هوجو.. إلى علبة مناديل ورقية وأخرى مناديل مبللة بالعطر ولم أنس فرشاة الشعر وفوطة الوجه وبعض الجوارب والملابس الداخلية وملابس النوم وأخيرا دفتر أوراقي وبعض الأقلام .. وفي اللحظة الأخيرة تذكرت شاحن كهرباء الموبايل وسماعة الاذن .. كل ذلك كان يتم في سرعة وهدوء وأنا في تنقلي من مكان الى آخر داخل منزلي وزوجتي ترقب تحركاتي في صمت ربما لعلمها بدقة هذه اللحظة وما تعنيه أو إدراكها لما يجول في صدري من مشاعر فتحترم صمتي .. حتى توقفت عن الحركة وأنهيت ترتيب أشيائي .. وأغلقت 

حقيبتي ثم إرتديت ملابسي إستعدادا للرحيل ونظرت حولي كمن يبحث عن شئ ما أو ربما كنت أودع الاشياء .


تحركت بخطوات حاولت أن تكون ثابتة هادئة الى حيث تجلس زوجتي وهي ترقب تحركاتي بعد أن إرتدت ملابسها وأعدت حقيبتها لترافقني إلى حيث إسعى تنفيذا لتعليمات الطبيب .. وقبلت جبينها في محاولة من لتهدئة خواطرها وأسكات مشاعر الخوف في داخلها .. وربما كنت في ذلك أحاول أن أحتمي بها لأسكت تلك المشاعر في صدري .


غادرنا المنزل واستقلينا السيارة في صمت وتحركت في طريقى إلى إحدى المستشفيات الكبرى التي تمتلئ بالبشر .. أنهيت إجراءات الدخول والحجز بالمستشفى بغرفة منفصلة بوجود مرافق كرغبة زوجتى الشديدة  .. وإن كنت لا أرغب في تواجد أحد أثناء مرضى بالمستشفى  لأنه من لحظات الضعف التى لا أرغب أن يراني فيها احد .. حتى زوجتي  .. وبدأت على الفور ولمدة ثلاث أيام في إجراء بعض الفحوصات والتحاليل والأشعة ورسم القلب التي تسبق إجراء مثل تلك العمليات .


وفي الليلة السابقة لإجراء العملية الجراحية وأنا جالس في سريري أحاول قضاء الوقت في الحديث مع زوجتى وقد إحتلت كرسي الفوتيه المواجه لسريري وأعطت ظهرها للتلفزيون أخذت تحكي لي بعض المواضيع وتقص بعض الأحداث وتدير بعض الحوارات محاولة منها لصرف تفكيري عن الوضع الحالي وما هو تالي من دخول غرفة العمليات في الصباح .


وفجأة وبلا سابق تمهيد أو إنذار خطر لها خاطر لم تمنع نفسها من أن تخرج ما يجول في صدرها فقالت : إحنا بنسمع كثير عن اللي بيحصل في المستشفيات وبتكتب عنه الجرائد كثيرا" .. فقاطعتها معترضا ومنفعلا : هو ده وقت مناسب علشان تقلقيني .. ومنين أضمن إن الدكتور مش هينسى فوطه أو مشرط بداخلي .. يعني أقوم أتمم على أدواته قبل ما يقفل الجرح !! سيبيها على الله وهو خير الحافظين .. قالت : يا حبيبي أنا ما قصدت إللي أنت بتتكلم فيه .. أنا أقصد الحديث المتكرر هذه الأيام في الجرائد والمحطات الفضائية عن وقائع سرقة الأعضاء التي ترتكب بلا ضمير وبلا ردع قانوني بل وإفلات مرتكبيها من الأطباء تجار الأعضاء من قبضة القانون الضعيفة والمتهاونة وربما أللامبالية .

 

تنبهت لخطورة الحديث .. فإعتدلت في جلستي ونظرت حولي وكأنهم يستعدون لسرقتي .. وقلت لها ربنا يحفظك نبهتيني لمشكلة كبيرة كان من الممكن ان تحدث ونحن في غفلة ودون أن نستطيع مواجهتها بعد وقوع المحظور .. أولا لازم أحتفظ بصور الأشعة التي تثبت طبيا أن كافة أعضائى كانت في مكانها قبل إجراء العملية وعليكى أخذ هذه الأشعة والإحتفاظ بها في مكان آمن للرجوع إليها عند اللزوم .. وثانيا يجب أن أعمل بوليصة تأمين ليس على الحياة فقط ولكن على الأعضاء .. كل عضو بسعره حتى يمكن مطالبة شركة التأمين بالتعويض عن أي عضو إذا وقع المحظور .


تناولت سماعة التليفون وإتصلت بالدليل أطلب منه رقم تليفون إحدى كبريات شركات التأمين في البلاد وإتصلت بالشركة ليأتي على الطرف الآخر صوت ناعم هامس ناعس وكأن من مهام وظيفتها تهدئة الخواطر وتسكين هواجس المتحدث قبل أن تحيله إلى الموظف المختص فأخبرتها برغبتي في التأمين .. طلبت منى الإنتظار لحظات لتحيلني إلى متحدث هادئ النبرات مرحبا بى وسائلا عن ما يستطيع تقديمه لي من عون .. فأخبرته برغبتي في التأمين على الأعضاء .. سألني هل أنت شخصية مشهورة ؟ أجبته مستنكرا : هل يجب أن أكون شخص مشهور حتى يمكنني التأمين على أعضائي !! فأجابني بهدوء : طبعا لازم تكون إنسان مشهور .. فمثلا لاعب الكرة المشهور فلان يمكنه التأمين على أقدامه فهي رأس ماله .. والممثلة المشهورة فلانه يمكنها أن تؤمن على عينيها .. والممثلة فلانة يمكنها التأمين على صدرها فهي بدونه لاشئ .. والراقصة فلانه تؤمن على وسطها الذي إذا توقف عن الهز مالت بها الدنيا وسقطت فوق راسها .. والمطربة فلانه تؤمن على صوتها .. كل هذه الأعضاء تساوي ملايين وهي رأسمال منتج لصاحبه .. أما أنت فمين حضرتك ؟ .. أجبته وقد علا صوتي وأنتفضت في مكاني : أنا إنسان رأسمالي في الحياه كل عضو من أعضائي التي وهبني الله إياها .. إنسان فقط بدون كلمة مشهور .. وإذا أردت لقب ممكن تسميني إنسان عادي .. فأجابني بهدوئه القاتل : في هذه الحالة يا إنسان عادي .. لا يوجد لك تأمين على الأعضاء .. وأغلق السماعة دون سابق تمهيد أو إنذار .


نظرت حولي في صمت وتحاشيت نظرات زوجتي المتسائلة عن مالم تسمعه من الحوار وقد إستنتجت جزء منه من خلال كلماتي .. ولكنها تفحصت وجهي وأدركت أن الأمور لم تسير كما رغبت .. وتساءلت فأخبرتها بما كان من رد وما يعنيه الأمر من نتيجة سوى أنه لا يوجد تأمين على الأعضاء في هذه البلاد سوى للمشاهير فقط .. وأننا في ذلك لا حماية لنا سوى القانون الضعيف الهزيل المتهاون والمتخاذل .. فأجابتني زوجتي وهي تحاول بمداعبتها أن تبعد القلق عني : تاهت ولاقيناها .. مشكلتنا الآن هى الإجراءات التي تمنعنا من التأمين على أعضائك .. طب وأيه يعني .. أنت ما سمعت عن السفن إللي بتهرب من إجراءات وقوانين الترخيص في البلاد فتروح بنما وتعمل إجراءات تسجيلها وترخيصها لتسهيلاتها وتيسيراتها وقوانينها التي تحميها وكمان ترفع علم بنما وتيجي البلاد ولا أحد يستطيع رفضها أو الإعتراض عليها .. إتصل بسفير بنما واسأله عن شركة تأمين بنمية واعمل فيها تأمين على الأعضاء .. إبتسمت على الرغم منى لتلك الدعابة .. وتململت في سريري منسحبا إلى أسفل وفردت جسدي على سرير المرض وقد إنتابني القلق واليأس والشرود وقد بدأ النوم يغزو جفوني محاولا أخذي إلى فترة من السكينة الإجبارية .

 

مرت لحظات لأجد نفسي وقد إستقر بى العزم على أن لا أستسلم لهذه العاصفة التي قد تعصف بجسدي من خلال قراصنة الأعضاء البشرية .. فقمت على الفور بطلب مكالمة الدليل وأخذت رقم سفارة بنما لأتحدث مع سفيرها وما أن شرحت للرجل ما أنا فيه وما أسعى إليه من الإتصال بشركة تأمين بنمية لكي تنقذني من تلك الإحتمالات المرعبة وإذا بالسفير وقد إنتابته موجة من السعادة الظاهرة في صوته لسمعة بلاده في محاربة الروتين والقوانين الجامدة وإحتضانها لمن لا ملجأ ولا حماية له في بلاده وأكثر من ذلك أنه بدوره هذا يؤدي خدمة وطنية لدولته بتسهيل صفقة تجارية وإجتذاب عميل لإحدى شركاتها وما لبث أن طلب منى الإنتظار على التليفون لحظات ليقوم بنفسه بالإتصال بإحدى شركات التأمين في بلاده وأخبرهم بالموضوع وطلب منهم إرسال بريد الكتروني بعقد التأمين باللغة العربية والإنجليزية على السفارة بعد أن أخبرني بقيمة العقد المتواضعة والميسرة في شروطها وطلب منى تجهيز الشيك لحين حضوره شخصيا ومعه التعاقد والتوقيع عليه أمامي من قبله كمندوب عن الشركة وإستلام الشيك حتى يطمئن على إتمام تلك الخدمة الوطنية وربما أيضا حفظ حقه في نسبة العمولة في هذه الصفقة ! .


بعد ساعة مرت كأنها الثواني دبت الحركة الهستيرية في أرجاء المستشفى التى فوجئت بوصول سفير بنما ومعه الملحق التجاري ووفد من السفارة البنمية في كوكبة رسمية يسأل عن غرفتي .. فأبلغ مدير المستشفى السيد وزير الصحة الذي أبلغ بدوره السيد  وزير الخارجية لعمل الإجراءات الدبلوماسيه والسيد وزير الداخليه لعمل الإجراءات الأمنيه  ليتوالى وصول الوفود الرسمية والإعلامية التي تصاحب عادة مثل هذه التحركات الحكومية .. ليجد الجمع سعادة سفير بنما يعلن أنه أتى بنفسه كي يشهد توقيع عقد التأمين على الأعضاء البشرية من شركة التأمين البنمية بواسطة الملحق التجارى الذى تسلم منى الشيك قبل صور الأشعة الطبية وصور مستنداتى الرسمية .. وليطمئن شخصيا على أعضائي التي أصبحت تحت الحماية البنمية ..  وقام بنفسه برفع علم بنما فوق سريري .. وعلم بنما خارج غرفتي .. وأعطانى علم ثالث محمول أستخدمه في تحركاتي أثناء الحركة داخل المستشفى .


على الفور بدأ مؤتمر صحفى رحب فيه السيد وزير الصحة بإهتمام حكومة بنما وسفيرها ..  ورحب السيد وزير الخارجية بتلك المبادرة البنمية لتوسيع آفاق التعامل التجاري بين البلدين .. وأعلن السيد السفير أنه قد حضر بناء على تكليف من الحكومة البنمية برعاية مصالحها والإهتمام بأن المريض يلقى الرعاية الطبية الفائقة ..  وأنه قام بنفسه برفع علم بنما خارج غرفتي .. وفوق سريري .. وأعلى رأسي .. أعلانا بانني تحت الحماية البنميه .. وتحذيرا لأي مساس بمحتوياتي من أعضاء .. ووقف بجانبي وهو ممسك بعلم بنما ومصوري الصحافة والإعلام يلتقطون لنا تلك الصور التذكارية التي تسجل هذه اللحظات التاريخية..  وأنا أكرر شكري لحكومة بنما الرشيدة .. ولإهتمام سعادة سفيرها شخصيا .. وقبلت علم بنما .. وتحركت للطواف به في أرجاء المستشفى وخلفي سعادة السفير البنمي ووزيري الصحة والخارجية .. رافعا علم بنما في وجه الإطباء وأطقم التمريض .. أحذرهم بصوت جهورى شامخ الرأس من أرتكاب أي حماقة بالتفكير في سرقة أي عضو من أعضائي أثناء العملية الجراحية لأنني حماية أجنبية وأرفع علم بنما .


وفجأه شعرت بهزة شديدة تنفض خلايا جسدي لأجد زوجتي وقد أحاط بي الإطباء  ..  تهزني بشدة لكي أفيق من النوم أو الكابوس الذي جعلني أقطع السرير ذهابا وإيابا متخبطا في جوانبه وأنا أصرخ بصوت عالى في الجميع .. أنا حماية أجنبية تحت علم بنما .. لتعلوا ضحكات الجميع من الكلمات المفاجئة .. وتزداد ضحكاتهم علوا حين قصصت عليهم حكايتي  أنا وعلم بنما .

ليست هناك تعليقات